أمثال خالد والثورة: إزالة الأسطورة المحيطة بخالد سعيد
ارتفع اسم خالد سعيد بسرعة حتى أصبح يعادل اسم روزا بارك. وأصبحت صورته الفوتوغرافية السمة المميزة للحركة الثورية في مصر على الدوام. وأصبح ميدان كليوباترا، المجاور لمسرح الجريمة، “قبلة” ومحطة يسير عبرها المتظاهرون وهم يرددون بأشكال مختلفة “كلنا خالد سعيد”.
في السادس من يونيو عام ٢٠١٢، انضممت إلى عدد لا حصر له من الأشخاص لإحياء الذكرى الثانية لوفاة خالد سعيد، الشاب السكندري ذي الثمانية والعشرين ربيعًا الذي ضُرب حتى الموت على أيدي رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية. وقد تردد صدى صرخات خالد عبر مصر كلها وأشعل شرارة العد التنازلي السريع للثورة المصرية التي حدثت في عام٢٠١١.
كان خالد الجار الذي يسكن في نهاية شارعنا، والذي أعترف أنني لم أنتبه إليه كثيرًا. ومع ذلك، فإن التحول الذي حدث له بعد وفاته من مجرد وجه آخر من وجوه الحي إلى رمز ثوري أصبح مصدرًا للإلهام والقلق على حد سواء، صار مصدر إلهام لأنه سلط الضوء على الثورة المصرية ومنحها زخمًا، وصار مصدر قلق لأن تحويله إلى أسطورة يحجب مشكلات حقيقية يواجهها كثير من أمثال خالد سعيد المصريين.
لقد شُوِّهت صورة خالد إلى درجة يتعذر معها معرفته تقريبًا. ولفهم مدى هذا التشويه، سأحاول من خلال مقابلات أجريتها مع أصدقاء وزملاء، وفي حدود معرفتي بالمنطقة وفهمي لها، أن أقدم رواية وصفية لحياة خالد حتى الليلة المشئومة في يونيو عام ٢٠١٠. وتجدر الإشارة إلى أن حقائق حياة خالد تتعارض مع الأسطورة التي نُسجت حوله والتأثير الاستقطابي لحياته وأسطورته. فموت خالد لم يكن مجرد دلالة على فساد الدولة البوليسية ووحشيتها؛ بل كانت حياة خالد دليلاً على أعراض اليأس المنتشر على نطاق واسع بين شباب مصر والذي ما زال يجتاحهم ويتجسد في عدد مفرط من الأعراض، بدءًا من تعاطي المخدرات حتى الرغبة القوية في الهجرة. ولا شك في أن بناء صورة لحياة خالد سعيد تخلد الأساطير التي تدحض نفسها بنفسها وتقلل بدورها، من خلال رفعه إلى مصاف القديسين، من شأن ديناميكيات حياته التي أدت فيما بعد إلى وفاته وتبسطها.
لقد مثلت مأساة خالد نقطة تحول في حياتي. وقد كتبت لأول مرة عن خالد سعيد بعد فترة قصيرة من وفاته مقالا بعنوان ” مصر في مسار تصادمي مع التاريخ”. وفي اليوم الذي مات فيه خالد كنت في أستراليا أتأمل في مسيرة والدي الراحل الذي توفي قبل سنتين في السادس من يونيو عام٢٠٠٨، بالقرب من المكان التي توفي فيه خالد. وعندما وصلتني أخبار موت خالد هزت عالمي بأكمله. ولم يكن ذلك بسبب انزعاجي من الطريقة التي مات بها خالد فحسب، بل لأن أيدي الدولة البوليسية القمعية التي أسسها الرئيس حسني مبارك قد توغلت إلى الحي الذي نشأت فيه واعتبرته، على نحو مثالي، منارة للتوافق بين الناس. وحتى ذلك الوقت كنت أعتقد بسذاجة أن هذه الأشياء تحدث للآخرين، في العشوائيات، أو معاقل الإسلاميين، أو السجون، أو نشرات الأخبار، أو ضواحي الإسكندرية الريفية، أو أي “منطقة أخرى”. وقد أصبحت منطقتي تلك “المنطقة الأخرى”.
اسمي خالد وﻴﭫ (موجة)
في أعماق سحيقة بمقابر وسائل التواصل الاجتماعية، ترقد جثة صفحة الفيسبوك الخاصة بخالد وﻴﭫ، الاسم المستعار لخالد سعيد. لقد تجمدت صورة بروفايل خالد وأنشطته على الفيسبوك مثل رماد مدينة بومبيّيPompeii الإيطالية الذي جمده الزمن. ومما يثير السخرية أن النهاية الصادمة والمفاجئة لحياة خالد هي التي ستزيل الجمود عن مصر وتخرجها من الحالة الرهيبة التي كانت عليها في ظل حكم مبارك.
وتحكي الصورة مجلدات عن شاب سُرق منه الأمل والمستقبل. وعلى بروفايله تجد أن الإسكندرية التي يود أن يعيش فيها ليست الحاضرة الثقافية المصرية التي كانت مزدهرة ذات يوم منذ ستين سنة، بل هي خليج الإسكندرية Alexandria Bay في نيويورك. لقد استحوذت على خالد فكرة الهجرة، إلى الولايات المتحدة لا سيما بعد أن عاش فيها فترة قصيرة. وبالنسبة إليه، كان أقرب شكل من أشكال الهروب من الواقع هو الإنترنت. وفي الحقيقة، عاش خالد معظم حياته على الإنترنت باستخدام وصلة مقرصَنة من الإنترنت كافيه الموجود تحت منزله (ليس هو الكافيه الذي زاره في ليلته الأخيرة). وإذا تعطل الاتصال بالإنترنت، كان يذهب إلى سبيس نت إنترنت كافيه Spacenet Internet Cafe (نعم، هذا هو الكافيه المقصود) على بعد حوالي ثلاثين مترًا من بيته. كان ينزِّل أحدث الأفلام والأغنيات ويوزعها على أصدقائه. وكانت تربطه علاقة عبر الإنترنت مع فتاتين تعيشان في الخارج.
إن المعنى الحرفي لاسم خالد سعيد هو “إلى الأبد سعيد”، وكان خالد في كثير من الأحيان يُدخل السعادة إلى قلوب الناس، لكن هل شعر هو نفسه بالسعادة مطلقًا؟ هذا أمر محل شك. فعندما تم استدعاؤه لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، جعلته قسوة الحياة العسكرية يتغيب بدون إذن رسمي. ونتيجة عودته الطوعية إلى الخدمة وبعض العلاقات الأسرية، صدر ضده حكم عسكري مخفَّف بالسجن مدة عشرة أشهر في عام ٢٠٠٦/٢٠٠٧. وكان خالد غالبًا محور الاهتمام، لأنه كان دائمًا يرفه عن زملائه في السجن بتهريجه. ونادرًا ما كان الناس يعرفونه باسمه الكامل. فقد قال لي صديق طفولته و (صديقي المقرَّب)، وسام محمد، إن خالد كان يُعرف باسم “خالد طيارة” لأنه كان يلصق شفرات أمواس الحلاقة بطائرته الورقية ليهدد منافسيه مما كان يجعل جميع المتحمسين لتطيير الطائرات الورقية يهربون من المشهد عندما يشاهدون الوحش المفترس المجنَّح يحلق فوق شواطئ الإسكندرية. وفيما بعد أصبح لقبه “خالد وﻴﭫ”، الاسم الذي عُرف به حتى وفاته والذي استوحاه من شقيقه الأكبر أحمد وﻴﭫ -الذي كان يعيش أغلب الوقت في الولايات المتحدة- ومن حبه لموسيقى الراب وتنسيق الأغاني DJing (كان خالد يتجنب عادة الاستماع إلى الموسيقى العربية). ويظهر هذا على حسابه في موقع ماي سبايس. وكان بإمكانك أن تعرف أن خالد بالمنزل إذا كان صوت الموسيقى المدوي يصدر عن شقته بالدور الثاني. وبما أنه كان شخصًا واسع الحيلة، فقد كان يوصل أسلاك الكهرباء من عمود الإنارة إلى جهاز الاستريو الخاص به ليشغله على الشاطئ. وأخيرًا، عُرف خالد أيضًا باسم لم يكن موضع إطراء كبير وهو “أبو سِنَّة” نسبة إلى سِنَّته المعوجة.
وكانت والدة خالد تمضي جزءًا كبيرًا من الوقت في القاهرة حيث تعيش ابنتها المتزوجة تاركة خالد وحده في الشقة، وهذا أمر نادر الحدوث في بلد يعيش فيه معظم جيل الشباب مع أسرهم حتى يتزوجوا. وهنا بدأت الانتهازية تطرق الباب.
وبما أن خالد كان يعيش في الشقة بمفرده، فقد جذب ذلك مجموعة جديدة من “الأصدقاء” استغلت خصوصية مسكنه في تعاطي المخدرات، فضلاً عن طبيعته التي ترهب العزلة. وعرَّف هؤلاء الأصدقاء خالد، الذي كان يتأثر سريعًا بغيره، على عالم الحشيش. وكانت حاجة خالد إلى “الاندماج” مع الغير يمكن أن تصل إلى مدى غريب؛ ففي إحدى المرات سرق أحد أصدقائه زجاجة دواء من خزانة الحمام وتحدى خالد أن يشربها كلها فقبل خالد التحدي وشربها. وكان خالد على دراية كبيرة بالتكنولوجيا، وكريمًا، وفتيًّا، ومفعمًا بالطاقة؛ وأجمع الكل على أن خالد كان دائمًا مهذبًا
ومستعدًا لمساعدة أي شخص وقت الضيق. ويحكي صديقه المقرب، محمد مصطفى، أنه قبل وفاة خالد بشهرين، كان معه قدر بسيط من المال، وكان في بعض الأحيان يتخلى عن تناول الوجبات ليطعم قططه الاثنتي عشرة. وفي إحدى المرات، قال خالد لمصطفى وهو في حالة من السوداوية: “لقد سئمت من اجتذاب الفتيات البذيئات، أريد أن أجتذب فتاة محترمة. أتمنى أن أحِب وأحَب”. وسرعان ما تحققت هذه الأمنية ووقع شعب بأكمله في حب خالد.
الغروب الأخير لخالد
هناك أدلة داعمة تؤيد الرأي القائل بأن خالد وقع في فخ، ولم يكن ضحية عشوائية لدورية شرطة. فثمة شخصية واحدة تبرز بشكل مريب من بين دائرة أصدقاء خالد، وهو محمد رضوان، المعروف باسمه المستعار الملائم له وهو محمد حشيش. وينظر سكان الشارع إلى محمد بوصفه يهوذا الإسخريوطي (خائن المسيح) الذي باع خالد، ومعظم أصدقاء خالد المقربين مقتنعون بأن اسم محمد كان ضمن كشف مرتبات الشرطة. وهناك دليل قوي يدعم هذه القناعة وهو أنه على الرغم من إدمان محمد حشيش أنواعًا قوية من المخدرات، فإن التهم الخفيفة التي توجه إليه لا تبدو متماشية مع خطورة المخدرات التي يتعاطاها. وقبل أسبوع من وفاة خالد، وفي أثناء وجوده بشقته، سرق محمد ورقة بمائة دولار من النقود التي أرسلها شقيق خالد له من الولايات المتحدة كي يستمر في تعاطي المخدرات. وعندما اكتشف خالد ذلك وذهب ليشكو لأصدقائه ما حدث، ظل أصدقاؤه يذكرونه بأن محمد حشيش شخصية مريبة (وكانوا يعتقدون بعد وفاة خالد أنه مرشد للشرطة). وكان خالد غاضبًا جدًا لأن محمد خان ثقته. واتصل محمد حشيش فيما بعد ليعتذر لخالد عن سرقة النقود، فسامحه خالد على الرغم من أنه لم يرد النقود المسروقة، ولم يتقابل حشيش وخالد حتى ليلة السادس من يونيو.
لقد قبضت الشرطة على محمد حشيش قبل بضعة أيام من وفاة خالد بتهمة حيازة بودرة (أحد أشكال الهيروين)، وأُطلق سراحه (مما يعني على الأرجح أن التهم قد أسقطت عنه فيما بعد)، ووفقًا لمحمد مصطفى ومعظم أصدقاء خالد، تشير المزاعم إلى أن إطلاق سراح محمد حشيش كان في مقابل اشتراكه في فخ مكيدة دبرتها الشرطة للقبض على خالد.
والرأي الشائع هو أن خالد كان لديه مقطع فيديو يظهر فيه ضباط شرطة يتقاسمون أموال المخدرات التي اغتنموها، لذلك أرادت الشرطة أن تقبض عليه. وأنا أشك كثيرًا في الادعاء الخاص بالفيديو بأكمله، لأنه لا يتسق مع شخصية خالد أو أنشطته، كما أن عددًا من أصدقاء خالد منقسمون حول هذه المسألة. ويبدو لي الأمر وكأنه نوع من التكفير عن الذنب لتحويل الانتباه من تعاطي خالد المخدرات إلى شيء أكثر بطولة. ويقول وسام، أحد أعضاء معسكر المشككين: “أنا لا أصدق مسألة الفيديو، لأنك حتى عندما تشاهده، ستجد أنه يحتمل تفسيرات مختلفة”. وحقيقة الأمر ليست أن الشرطة كانت قلقة على سلامة خالد (لأنها لم تكن كذلك)، ولكن إذا أتيح لضباطها فرصة القبض على شخص وفي حيازته مخدرات يمكن أن يعني ذلك أي شيء بدءًا من الحصول على ترقية واستيفاء حصة المجرمين المطلوب القبض عليهم إلى إمساك شيء ضد خالد يمكن استغلاله ضده في المستقبل في مقابل رشوة تُدفع إلى الشرطة أو التعاون معهم. ويقول مصطفى بسخرية: محمد حشيش معروف بتعاطيه الهيروين وقد أُطلق سراحه، ولكن خالد هو من قُتل بسبب البانجو.
وثمة أدلة مقنعة تعزز انعدام العشوائية في اختيار خالد وتورط محمد حشيش بشكل كبير في تلك المحنة المشئومة. ويقول إسلام المسيري، مالك الإنترنت كافيه الموجود تحت عمارة خالد، إنه لم يرَ ضابطي الشرطة هذين مطلقًا من قبل في الشارع. ويضيف مصطفى: “شوهد الضابطان في وقت متأخر من عصر ذلك اليوم وهما يقومان بجولة كبيرة في الشارع مشيًا على الأقدام وكأنهما يدبران شيئًا”.
كما يشير وسام أيضًا إلى أن “خالد لم يكن يرتدي ملابس لائقة توحي بأنه كان ينوي مغادرة الشارع، لقد ذهب ليحضر شيئًا ما فحسب”. (كان خالد يلبس شورت طويلاً أبيض وتي شيرت أسود ليلة وفاته).
ومحمد حشيش معروف بسمعته السيئة التي تعود إلى سنوات تجنيده الإلزامي. فقد قال أحد المصادر إنه قبل عدة سنوات، كان حشيش يتجول في المنطقة المحلية واعدًا الناس بفرص عمل في شركة بترول الإسكندرية المرموقة. وكان على من يتقدم بطلب عمل أن يدفع له١٥٠ جنيهًا مقابل فرصة العمل. ولم يحظَ أحد بأي فرصة عمل، مما نتج عنه تولد شعور بالغضب تجاه حشيش. وفي ضوء خلفية محمد حشيش المريبة وما يُعرف عنه من حب التملق، فإنه لم يكن مجبرًا على الأرجح على ما قام به بل انتهز الفرصة في الغالب نظرًا لولعه ببناء علاقات مع الناس. ولكن سلوك محمد بالغ اليأس ليلة وفاة خالد يشير إلى أنه لم يكن يتوقع وفاة خالد.
وفي ليلة الأحد الصيفية الرطبة المشئومة، اتصل محمد حشيش بخالد وأخبره أن أحد بائعي المخدرات سيقابلهم عند ناصية شارعهم المواجهة لساحل البحر. وبعد أن غربت الشمس فوق مياه البحر المتوسط بعد السابعة مساء بقليل، تمشى خالد مع حشيش واشترى البانجو الذي يريده (حدث تعتيم بعد ذلك مباشرة استمر ساعتين ما زلت أتحقق منه). ويقول مصطفى بناء على شهادة غير مباشرة أن خالد اقترح على حشيش أن يذهب معه إلى شقته، فأجاب حشيش: “تعالَ معي فقط إلى السايبر (سبيس نت كافيه) لأنني يجب أن أشاهد شيئًا”، فواصل خالد وحشيش السير معًا نحو سبيس نت. وبينما كان حشيش يتحدث على هاتفه المحمول باستخدام سماعة (مع صديق على الأرجح)، شوهد وهو يلوح بيده ويمشي ببطء بعيدًا عن خالد (ولكن على مسافة قريبة تسمح له بالتحدث معه). ويقول أحد السلفيين الذي يدير محلاً قريبًا للهواتف المحمولة: “بعد صلاة العشاء (التي يحين موعدها في الساعة ٨:٣٠ مساء) بفترة طويلة، بدأ الهرج والمرج”، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء.
ولحق ضابطا الشرطة خالد إلى الإنترنت كافيه فيما ابتعد محمد حشيش. ويقول مصدر موثوق فيه طلب عدم ذكر اسمه: “عند هذه المرحلة، كان حشيش يمشي (والبعض يقول يجري) على قدميه نحو قسم سيدي جابر ثم عاد إلى موقع الحادث وهو يقود سيارة الشرطة بنفسه”. ويحوّل هذا الادعاء محمد حشيش من واشٍ إلى شريك صريح في الجريمة. وكان من الممكن أن يكون هذا الكلام موضع شك لو لم يشاهَد محمد حشيش برفقة مخبرين يحميانه خلال الفترة التالية لوفاة خالد. وبالعودة إلى مشهد سبيس نت كافيه، سأل أحد الضباط خالد عما يحمله معه ثم أدخل بعد ذلك يده في جيب خالد، فدفع خالد أحد الضابطين إلى الخلف مشيرًا إلى القانون وكرامته. فأمسك الضابطان الناقمان خالد من شعره الطويل وبدآ يضربانه في الإنترنت كافيه ثم واصلا ضربه بمدخل العمارة المجاورة. وتفاصيل الضرب مسجلة في المحاضر الرسمية. فصرخ خالد: “أنا أحتضر”، فأجاب الشرطي: “لن أتركك حتى تموت”. (من الممكن ألا يكون قد قصد ذلك حرفيًا). ولكن الأمر المثير للانزعاج في مسألة الضرب برمتها هو أن الحشود المجتمعة لم تحاول أن تتدخل فيما يجري أمامها. وأشار أحد الأصدقاء: “لم نكن نعتقد أنه سيموت، ونحن نتحدث هنا عن رجال الشرطة، من يستطيع إيقافهم؟” يصعب التصديق أنه منذ سنتين فقط كان المصريون مرعوبين من الشرطة إلى هذا الحد، حتى عندما كانت تتعامل بوحشية مع مواطن شاب.
وبعد أن انتهى الشرطيان من ضرب خالد، صعدا إلى سيارة الشرطة ومعهما جسد خالد المحتضر وعادا من حيث أتيا. ولم تكد تمر عشر دقائق حتى عادت السيارة وألقيت جثة خالد أمام العمارة التي ضُرب فيها. وحينما كان حشيش جالسًا في سيارة الشرطة بعد منتصف الليل، كان حشيش يبكي ويردد لوسام: “قلت لخالد ألا يحمل معه مخدرات”. واختفى حشيش من المشهد الاجتماعي عدة أشهر خوفًا من الانتقام (على الرغم من الحماية التي خصصت له). وفي المحكمة، قدم رواية مخففة عن الواقعة ألقت باللوم على خالد أكثر من الشرطة. وعلَّق مصطفى: “ما الذي يخشاه؟ لقد قمنا بثورة للتوّ!”. وإلى يومنا هذا، يروي الأصدقاء أن محمد حشيش لم يكن صريحًا بشأن كل تفاصيل التحركات الدقيقة لخالد والحوارات التي مهدت لوفاته.
ولا يزال السؤال مطروحًا حول ما إذا كان خالد قد ابتلع لفافة البانجو أم أن الشرطة هي التي حشرتها في فمه. وقد قال وسام أمرًا مثيرًا للاهتمام: “لقد جئت عندما كانوا يحملون جثة خالد إلى داخل عربة الإسعاف، وبدا وجهه في حالة بشعة لكنه لم يبدُ مثل ذلك الوجه المقطَّع المشوَّه الرهيب الظاهر في الصورة المنشورة، فلا يمكن أن تكون تلك الصورة قد التُقطت إلا بعد التشريح”. وعلى أية حال، خلق سلوك الشرطة وتصرفاتها الظروف التي سهلت وفاة خالد. ولم يعش خالد بعد منتصف تلك الليلة، وتغير مجرى التاريخ المصري، وولدت أسطورة خالد سعيد.
الطريق إلى خلق الأسطورة
ارتفع اسم خالد سعيد بسرعة حتى أصبح يعادل اسم روزا باركس. وأصبحت صورته الفوتوغرافية السمة المميزة للحركة الثورية في مصر على الدوام. وأصبح ميدان كليوباترا، المجاور لمسرح الجريمة، “قبلة” ومحطة يسير عبرها المتظاهرون وهم يرددون بأشكال مختلفة “كلنا خالد سعيد”. ويبدو أن الميدان قد تم تصميمه ليكون في موقع رأس الحربة بالنسبة إلى قيادة المنطقة الشمالية العسكرية في الإسكندرية حيث تتكدس جموع المتظاهرين في نهاية المظاهرات.
إن قضية خالد أصبحت سيئة السمعة لأن وفاته حدثت بشكل سافر أمام العلن، وأصبحت صورة وجهه المشوَّه في المشرحة ملازمة للشعب.وقد كتب الشاعر ديفيد لورنس أن “الأسطورة هي محاولة لسرد تجربة إنسانية كاملة، ذات غرض عميق جدًا، يسري في أعماق الدم والروح، لدرجة أنه لا يمكن وصفها أو تفسيرها بطريقة عقلانية”. ومع ذلك، لا بد من محاولة فهم الصعود المفاجئ لخالد سعيد والطريقة التي صاغ بها الخطاب الوطني، والتي شكلت بدورها الكيفية التي ينظر بها المصريون إلى خالد سعيد.
أسطورة خالد ليست مفاجئة، لأنها وُلدت في منطقة شهدت تنازع للقوى بين الأسطورة والتاريخ. لقد عاش خالد ومات في شارع مدحت سيف اليزل خليفة بمنطقة كليوباترا حمامات التي تقطنها الطبقة المتوسطة. وقد تكون التسمية إحياء لتراث الملكة زنوبيا التي فتحت مصر في عام ٢٧٠م، والتي كانت مفتونة بكليوباترا ولقبت نفسها بكليوباترا الجديدة. وكانت آخر مرة تصدرت فيها هذه الضاحية عناوين الصحف خلال الحرب العالمية الثانية عندما رأى شبح سيدي جابر (وهو صوفي مغربي استقر في الإسكندرية منذ عدة قرون مضت)، وفقًا للأسطورة المحلية، طائرات المحور الحربية تقترب وتوشك أن تقصف المنشآت العسكرية البريطانية في ضاحية سيدي جابر. ولكي يحمي مسجده المجاور الذي يحمل اسمه، حسب القصة، لوَّح للطائرات كي تبتعد عنه مما أدى إلى سقوط جميع القنابل على كليوباترا الحمامات المجاورة للمسجد في أول أسبوع من حملة طائرات المحور. حدث ذلك في يونيو عام ١٩٤٠. وإذا سرَّعنا الزمن ٧٠ سنة إلى الأمام وصولاً إلى يونيو عام ٢٠١٠، سنجد أن شبحًا آخر قد ظهر وتمكن في النهاية من إبعاد مبارك.
ويقول البعض إن قضية خالد أصبحت سيئة السمعة لأن وفاته حدثت بشكل سافر أمام العلن، وأصبحت صورة وجهه المشوَّه في المشرحة ملازمة للشعب. ولا يوجد خلاف كبير حول ذلك الرأي، غير أنه لا يأخذ في الحسبان العوامل التي جعلت خالد حالة فريدة في بلد يُعتبر فيه وجود ضحايا لوحشية الشرطة أمرًا طبيعيًا، فقد صُورت حالات من هذا القبيل في الماضي، وإن لم تكن بالقدر نفسه من الشناعة.
ومن العوامل التي ساعدت خالد على أن يعتلي قمة الشهادة خلفيته التي تعود إلى الطبقة المتوسطة. وهذا أمر حاسم لأن المجتمع يتجاوب عادة مع الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الخلفية بشكل أكبر من أولئك الذين يأتون من خلفيات أدنى من الناحية الاجتماعية-الاقتصادية أو من خلفيات فقيرة. وهناك عامل آخر وهو أن خالد لم تكن له صلات معروفة بحركات إسلامية أو سياسية؛ وبالتالي، فإن غياب أي ميل أيديولوجي واضح في خلفيته مكَّن كثيرين من أن يدَّعوا إنتماء خالد لهم بوصفه “مواطنهم” المصري العادي. وحقيقة أن خالد قد توفي في الإسكندرية رجحت كفته؛ ذلك أن الفنون الشعبية عززت ميل المصريين ثقافيًا إلى ربط المدينة الساحلية بالرومانسية، والهروب من الواقع، والدلالات الإيجابية المتنوعة. فلو مات خالد في سوهاج أو أسوان، كان من الممكن أن تمر وفاته مرور الكرام، غير أن الإسكندرية هي مركز طليعي جاذب، لا سيما فيما يتعلق بالديناميكيات الاجتماعية-السياسية في مصر.
وتحظى سياسات الشارع في القاهرة بالاهتمام الأكبر هنا. فقد سمح عدم وجود منظمات حقوقية بارزة تتولى التحقق من الوقائع في الإسكندرية، على خلاف الوضع في القاهرة، بظهور وجهة نظر مشوهة حول القضية. وقد ازداد الأمر تفاقمًا بسبب التقارير الصادرة عن دوائر الناشطين المستقرين في القاهرة والمبالغة غير المبررة للظروف المحيطة بوفاة خالد. كما أن وصول حقيقة طريقة وفاته المفجعة إلى مركز أصحاب القوة والنفوذ بالقاهرة رسخ شرعيته الوطنية بشكل أكبر وعجَّل بتحويله إلى أسطورة. لقد قدم خالد أيضًا حلقة الوصل المفقودة مع الجيل المتمكن من وسائل التواصل الاجتماعية، فقد استُشهد في إنترنت كافيه حينما زُعم أنه كان على وشك أن يُحمِّل فيديو إلى موقع يوتيوب يظهر فيه رجال شرطة منحرفون وهم يتقاسمون الأموال التي اغتنموها من المخدرات. ومع ذلك، وبصرف النظر عن مدى تأكيد هذه الواقعة، فقد أدى الزعم المبدئي بوجود هذا الفيديو إلى سرعة إدراك الناس لقضية خالد وتجاوبهم معها على نحو فاق الحدود. ويتساءل المرء، هل كان التونسيون سيتفاعلون بهذا الشكل الحماسي إذا كان محمد البوعزيزي قد وُصف بأنه بائع فاكهة فلاح بدلاً من خريج جامعي عاطل عن العمل من الطبقة المتوسطة، حسبما رُوي خطأ في التقارير الأولية؟ لقد انتشرت الصورة المروعة لوجه خالد المشوه انتشارًا هائلاً عبر وسائل التواصل الاجتماعية، كما شكَّل إنشاء صفحة “كلنا خالد سعيد” على الفيسبوك على يد عبد الرحمن منصور والموظف التنفيذي بشركة جوجل وائل غنيم نقطة تحول رسخت قضية خالد بوصفها نقطة محورية يحتشد خلفها الشعب. لقد أصبح خالد الوجه الإنساني لمأساة مصر، وكذلك فتاها الرقمي (على الإنترنت).
ومن المغري هنا إثارة السؤال التالي: لماذا لم يتحدث سكان ضاحية كليوباترا الحمامات علنًا منذ البداية كي يؤكدوا الحقائق حول شخصية خالد ومصيره؟ هذه مسألة تتعلق بظاهرة آل كابون، رئيس العصابة التي كانت تعمل في شيكاجو، والذي على الرغم من أنه أدار مشروعًا إجراميًا ضخمًا وقتل عددًا كبيرًا من منافسيه، فقد أُزيح عن عرشه وسُجن بسبب التهرب الضريبي ليس إلا. وعلى أية حال، لم تكن مأساة خالد سعيد أسوأ ما اقترفه نظام مبارك، لكن بمجرد أن كشفت الواقعة عن موطن ضعف بالنظام، أصبح خالد هو الحل لإنصاف كل الأرواح التي أُزهِقت والتعويض عن المظالم التي عانى منها الناس في الماضي. وكان التزام الصمت أكثر ملاءمة إذا كانت الأسطورة تخدم الهدف المتمثل في إسقاط نظام مبارك على أيدي أتباعه. وعلى أية حال، فإن صوت الغضب الوطني كان يصم الآذان إلى حد جعل من الصعب تبني أية وجهة نظر مغايرة. وأحد الأمثلة على ذلك حدث بعد الثورة المصرية مباشرة عندما أشرت مجرد إشارة إلى المخدرات وخالد سعيد خلال حديثي في برنامج أسترالي؛ وتلقيت في اليوم التالي مكالمات غاضبة من دبلوماسيين مصريين وشخصيات أخرى في المجتمع.
وليس معنى هذا الانتقاص من السياق السياسي في عهد مبارك الذي كان قد وصل إلى مداه. لقد كان رد الفعل المحموم من الشعب المصري تجاه عودة محمد البرادعي الحائز على جائزة نوبل للسلام في فبراير عام ٢٠١٠ ينطوي على ما هو أكثر من مجرد التلميح لتعطشهم الشديد إلى “المخلص المنتظر”. كان المسرح جاهزًا، والنص مكتوبًا، وبانتظار حضور الممثلين “المناسبين” ليلعبوا الأدوار المحددة لهم. وكان خالد زعيم الشهداء.
ويمكن هنا إثارة السؤال التالي: ما الإشكالية في تحويل خالد إلى أسطورة؟ إن العوامل التي لعبت دورًا في تكوين خالد سعيد الذي نعرفه اليوم هي نفسها التي أخفت النظام الاجتماعي المختل وظيفيًا. ويعتبر تركز أعمال المناصرة الحقوقية في القاهرة على حساب بقية مناطق مصر مثالاً على ذلك. فعندما تحدث إليَّ أحد الحقوقيين العاملين في القاهرة بنبرة من يهنئ نفسه على ما قام به الحقوقيون في قضية خالد (كما لو أن الإسكندرية ليست بحاجة إلى تمثيل خاص بها)، أجبته بأن العمل في مجال حقوق الإنسان يعتمد على المعرفة المحلية بالمدينة، وإقامة شبكة واسعة من العلاقات، ودور المحامين، والمهم أن تكون الشرطة على علم بأنها تحت المراقبة. وقد يفسر هذا سبب انتهاج الشرطة سلوكيات أكثر وحشية بكثير خارج القاهرة. ولا بد من إثارة أسئلة أخرى نابعة من الرسالة المبطنة في تركيبة خالد سعيد: ماذا عن حقوق أولئك الذين ينتمون إلى مستوى أدنى من الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل يهم إذا لم يكن لدى شاب ريفي القدرة على الحصول على الإنترنت؟ وهل كان من الممكن لضحية نوبي أسمر أن يحصد كل هذا الانتباه؟ وهل من الممكن أن ينطبق تعبير “شهيد” على قبطي؟ وإلى أي مدى كان الخطأ سيكون “خطأها” لو أن امرأة هي التي كانت في موقف كموقف خالد؟ وهل يفكر أحد في الشباب البدوي في سيناء؟ عندما تجمع كل هذه الأفكار، تجد أن هناك الكثير من أمثال “خالد سعيد” الاحتياطيين ممن لا نسمع عنهم، وفي الغالب لن نسمع عنهم أبدًا. وبدلاً من أن نستغل خالد سعيد بوصفه معْلَمًا يشير إلى عدم التكافؤ الذي تعاني منه مصر حاليا والمشكلات الاجتماعية-الاقتصادية التي تلوح في الأفق، فإننا نستخدمه بوصفه نموذجًا للشهيد الجيد والشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه.
الأثر الاستقطابي لخالد سعيد
أحد الآثار الجانبية لأسطورة خالد سعيد هو إلقاء اللوم على الضحية، ضمنًا وصراحة على حد سواء. ولا مهرب من أسطورة خالد سعيد في كل أنحاء مصر تقريبًا باستثناء، على نحو غير مفاجىء، فى حيِّنا. فحينما يُذكر اسم خالد سعيد يرتد سامعه إلى الوراء بعض الشيء ويحرك عينيه في حركات دائرية، ولا يساعد طوفان وسائل الإعلام العالمية على تغيير تلك الصورة. وفي النهاية، أجد نفسي مضطرًا أن أمسك لساني، إن أردت عدم المجادلة مع حلاقي أو جيراني عندما يتفوهون بعبارات مثل: “كان خالد معتادًا التحرش بالفتيات” أو “خالد لم يكن شابًا جيدًا، فقد كان يتعاطى المخدرات” .والمعنى الضمني لملاحظاتهم هو أن خالد استحق بطريقة أو بأخرى ما حلَّ به. ناهيك عن مفاجأتي عندما سمعت التعليق التالي من صديق مشترك بيني وبين خالد بعد وفاته مباشرة: “ما كان ينبغي على خالد أن يهرب من الشرطة!” (على أية حال، لم يهرب خالد من الشرطة). إذن، خالد هو الملوم على قتله على يد الشرطة، أو على أقل تقدير، على سلوك الشرطة والظروف التي أدت إلى وفاته؟! لقد حالف خالد سعيد الحظ (بعد وفاته)، نظرًا إلى استشراء المرض الاجتماعي المتمثل في لوم الضحية. وتُعتبر فتاة التحرير مثالاً على ذلك، فتلك الناشطة الطبيبة الشابة ضربتها قوات الجيش بوحشية حتى انكشف لحمها وحمالة صدرها الزرقاء أمام العالم في ديسمبر عام ٢٠١١.
لم يلقِ كثيرون اللوم على الجيش، لأنه وفقًا للرأي الشعبي في الشارع المصري فإن الفتاة هي “من استفزتهم”، أو “لم تكن ترتدي الحجاب بشكل ملائم”، أو أن “القوات المسلحة لا ترتدي أحذية جري”، أو “تم التلاعب بالصورة بواسطة الفوتوشوب”، ويمكنك أن تدخل هنا من استنتاجاتك ما يعزز أن أو “الإنكار نهر في مصر”.(أي يمكنك إدخال أي جملة تعبر عن الاستنتاجات التي لا تستند إلى أي دلائل حقيقية). لقد عصفت عقود من قانون الطوارئ وحكم بلطجية مبارك بالأفكار المتعلقة بضرورة إبراز أوامر القبض على الأشخاص، وضرورة اتباع الإجراءات المتسقة مع القواعد والمبادئ القانونية المستقرة، وسيادة القانون. لذلك استطاع شخص من عصر مبارك مثل أحمد شفيق، بسجله المثير للجدل، أن يمتلك الجرأة على أن يترشح لمنصب الرئاسة ويجمع ما يكفي من الأصوات ليصل إلى جولة الإعادة. ويبدو أن الوعد بالاستقرار لا يتماشى مع سيادة القانون. ويساهم متملقو خالد سعيد -الذين انتشروا بعد الثورة- بشكل غير مباشر في ظاهرة إلقاء اللوم على الضحية، وهذا في حد ذاته يمثل جوهر الظلم الاجتماعي الذي يسعون لمحاربته. فمن خلال تبرئتهم خالد من تهمة تعاطي المخدرات وأي سلوك آخر سيئ حسب التصور الاجتماعي، فتحوا المجال أمام التفسير القائم على أن من يرتكب هذه الأفعال يصبح عرضة للإعدام على أيدي الشرطة دون محاكمة قانونية.
وعلى الجانب الآخر، فإن رفع خالد إلى مستويات كونية من البطولة يقلل من حجم التحديات اليومية الحقيقية التي واجهها خالد، والشباب المصري من بعده. فخالد لم يكن من كوكب آخر؛ لقد كان منتجًا للمجتمع المصري المعاصر وجيل شبابه المضطرب. لذلك، فإن تنقية خالد من الشوائب، ووضع صورة جواز سفر له مفلترة بالفوتوشوب، وتحويله إلى ناشط في البروفايل الخاص به، وترديد أقوال كالببغاوات حول حيازته المشكوك فيها لمقطع فيديو ضد الشرطة لا ينصف الشباب الذين يواجهون مشكلات يومية حقيقية، ويؤدي في النهاية إلى فرض رقابة على مناقشة الأسباب التي تدفع الشباب نحو المخدرات، والاكتئاب، والتطرف الديني، وما شابه ذلك. وما سأقوله أنا والآخرون لن يغير كثيرًا من الرأي الشعبي في خالد، لأن الأسطورة أقوى من التاريخ.
وأخيرًا، فإن تحويل خالد سعيد إلى أسطورة عزَّز تسييسه، ذلك أن رؤية الناس لخالد تعتمد على السياسات التي يؤمنون بها. ففي أحد طرفي النقيض، وضعت حركة شباب 6 أبريل خالد موضع الإجلال، فبالنسبة إليها خالد كامل من شتى النواحي ولا تشوبه شائبة. وعلى الطرف الآخر، روَّج الفلول لمقولة “خالد متعاطي المخدرات” (أو “شهيد الماريجوانا” كما أطلقوا عليه في إحدى المرات على نحو خالٍ من اللباقة)، ولا يرجع ذلك إلى احترام مفاجئ لتحري الدقة في المعلومات، ولكن ليبرئوا ساحة نظام مبارك. وألقت وسائل الإعلام المصرية والمعلقون القوميون بثقلهم وراء تضخيم خالد حتى يغطوا على أهمية البوعزيزي وتضحيته بنفسه، فقد ارتكبت تونس “خفيفة الوزن” جريمة لا تُغتفر حينما خطفت الأضواء من “أم الدنيا” عبر توجيه ضربة إلى كبرياء مصر من خلال بدء الانتفاضات العربية. ويمكن القول إن قائمة محبي خالد وكارهيه، كل حسب غايته، لا نهاية لها. ناهيك عن أحد أقارب خالد الذي اختار لحملته، التي لم تتكلل بالنجاح في الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر الماضي، شعارًا غير موفق وهو: “عم خالد سعيد”.
الطريق نحو المستقبل
مأساة خالد هي مأساة مصر.
وعلينا ألا نحيي ذكراه لأنه كان قديسًا أو آثمًا، ولكن ببساطة لأنه كان إنسانًا سُرقت منه حقوقه وكرامته بمجرد أن لفظ أنفاسه الأخيرة. ونحن لا نحيي ذكرى خالد سعيد فحسب، بل ذكرى أرواح لا تُعد ولا تُحصى لا نعرف لها أسماء ولا وجوهًا أُزهقت قبل وفاة خالد أو منذ وفاته. ووالدة خالد، السيدة ليلى مرزوق، سيدة رائعة تعمل بلا كلل لتوجه الاهتمام نحو الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن على يد النظام السابق. وهذا النوع من المجموعات لا يحتاج إلى مزيد من الأعضاء المصابين بالذهول من ذوي القلوب المنكسرة.
كان خالد قد بدأ يغير نفسه إلى الأفضل في الشهور الأخيرة من حياته. لكن كل هذا لم يكتمل، وهذا شعور مشابه جدًا لشعور كثير من المصريين حول الثورة. فالتمثيلية التي صاحبت الحكم الأخير الصادر ضد مبارك والتي أدت إلى إصدار حكم مخفف عليه، وعلى وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وإلى تبرئة ابني مبارك وأفراد عصابته من رجال الأمن، أدت مرة أخرى إلى إعادة إشعال الحماسة الثورية في أرجاء مصر. وفيما يبدي أنصار الثورة المضادة والفلول، بمباركة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مقاومة شرسة، يسيطر على القوى الثورية المصرية هاجس أنها ستواجه مزيدًا من الآلام خلال سعيها لكتابة ماجنا كارتا مصرية بدمائها، وعرقها، ودموعها. خالد سعيد أسطورة، لكنها ضرورية. كما أن استمرار الثورة المصرية أيضًا حرب أفكار ستكتب الغلبة لها. ومصير خالد سعيد ما هو إلا تذكير وتلخيص للأسباب التي جعلت مصر تنتفض وتستمر في دفع الثورة بكل جد إلى الأمام. لقد مكَّن خالد سعيد المصريين من إضفاء لمحة شخصية وإنسانية على موضوعات معقدة كان من الممكن أن تنجرف نحو حالة من التجريد المظلم.
وبينما يحيي المصريون ذكرى خالد سعيد هذه السنة وفي السنوات التالية، عليهم أيضًا أن يتصالحوا مع خالد وﯿﭫ حتى يستمعوا إلى صرخة الحرب الصادرة عن جيل مخدوع وضعه إقصاؤه السياسي لفترة طويلة جدًا في مأزق تعاطي المخدرات أو التطرف الديني، الذي يمثل المرادف الاجتماعي لمأزق أحمد شفيق ومحمد مرسي الحالي. وما زالت هناك حاجة ملحة لإيجاد طريق ثالث، فمصر ليست بحاجة إلى مزيد من أمثال خالد سعيد، بل هي بحاجة إلى إحراز تقدم يشمل الجميع ويحمل الشعلة للشباب كي يبين لهم بعضًا من مظاهر ما يعنيه أن تكون “سعيد إلى الأبد”.
ملاحظة من المترجمة: كانت روزا بارك أول امرأة سوداء تتمرد على القوانين الأميركية العنصرية عام ١٩٥٥ بعد أن رفضت التخلي عن مقعدها في إحدى الحافلات لرجل أبيض عندما كانت الحافلات تقسم إلى جزأين، أحدهما للبيض في مقدمة الحافلة وآخر للسود في مؤخرتها. وعملت روزا بمهنة الخياطة في مونتجمري عاصمة ولاية ألاباما.
ملاحظة من المترجمة: الماجنا كارتا هي وثيقة ملكية بريطانية التزم فيها الملك جون بالقانون الإقطاعي والمحافظة على مصالح النبلاء في عام ١٢١٥م بهدف إخضاعه لحكم القانون وكبح جماح السلطة المُطلقة، وتُعدُّ معلمًا بارزًا من معالم تطوُّر الحكومة الدستوريّة في بريطانيا.
ظهرت هذه المقالة في الأصل في موقع:www.jadaliyya.com